فصل: تفسير الآيات (49-50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (49-50):

{وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ}.
مَا ذَكَرَهُ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ- أَوْضَحَهُ فِي الْأَعْرَافِ بِقَوْلِهِ: وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ.
وَالرِّجْزُ الْمَذْكُورُ فِي الْأَعْرَافِ هُوَ بِعَيْنِهِ الْعَذَابُ الْمَذْكُورُ فِي آيَةِ الزُّخْرُفِ هَذِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا يَكَادُ يُبِينُ}.
قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي طه فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ مُوسَى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} الْآيَةَ [20/ 27].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ}.
قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} الْآيَةَ [25/ 7].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ}.
آسَفُونَا مَعْنَاهُ أَغْضَبُونَا وَأَسْخَطُونَا، وَكَوْنُ الْمُرَادِ بِالْأَسَفِ الْغَضَبَ- يَدُلُّ عَلَيْهِ إِطْلَاقُ الْأَسَفِ عَلَى أَشَدِّ الْغَضَبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [7/ 150] عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ}.
قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ}.

.تفسير الآية رقم (57):

{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}.
قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ يَصُدُّونَ بِضَمِّ الصَّادِ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ يَصِدُّونَ بِكَسْرِ الصَّادِ.
فَعَلَى قِرَاءَةِ الْكَسْرِ فَمَعْنَى يَصِدُّونَ يَضِجُّونَ وَيَصِيحُونَ، وَقِيلَ: يَضْحَكُونَ، وَقِيلَ: مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، كَيَعْرُشُونَ وَيَعْرِشُونَ، وَيَعْكُفُونَ وَيَعْكِفُونَ.
وَعَلَى قِرَاءَةِ الضَّمِّ فَهُوَ مِنَ الصُّدُودِ، وَالْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ فِي قَوْلِهِ: {ضُرِبَ} قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبْعَرَى السَّهْمِيُّ قَبْلَ إِسْلَامِهِ.
أَيْ وَلَمَّا ضَرَبَ ابْنُ الزِّبَعْرَى الْمَذْكُورُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَاجَأَكَ قَوْمُكَ بِالضَّجِيجِ وَالصِّيَاحِ وَالضَّحِكِ، فَرَحًا مِنْهُمْ وَزَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّ ابْنَ الزِّبَعْرَى خَصْمُكَ، أَوْ فَاجَأَكَ صُدُودُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْمَثَلِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَفْظَةَ مِنْ هُنَا سَبَبِيَّةٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ يَذْكُرُونَ أَنَّ مِنْ مَعَانِي مِنْ السَّبَبِيَّةَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [71/ 25]. أَيْ بِسَبَبِ خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْحَالِفِينَ فِي أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ: أُقْسِمَ بِاللَّهِ لَمِنْ ضَرْبِهِ مَاتَ.
وَإِيضَاحُ مَعْنَى ضَرَبَ ابْنُ الزِّبَعْرَى عِيسَى مَثَلًا- أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَنْزَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [21/ 98] قَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى: إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مَعْبُودٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي النَّارِ، وَإِنَّنَا وَأَصْنَامَنَا جَمِيعًا فِي النَّارِ، وَهَذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَدْ عَبَدَهُ النَّصَارَى مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانَ ابْنُ مَرْيَمَ مَعَ النَّصَارَى الَّذِينَ عَبَدُوهُ فِي النَّارِ فَقَدْ رَضِينَا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ وَآلِهَتُنَا مَعَهُ.
وَقَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي عُزَيْرٍ وَالْمَلَائِكَةِ؛ لِأَنَّ عُزَيْرًا عَبَدَهُ الْيَهُودُ، وَالْمَلَائِكَةَ عَبَدَهُمْ بَعْضُ الْعَرَبِ.
فَاتَّضَحَ أَنَّ ضَرْبَهُ عِيسَى مَثَلًا، يَعْنِي أَنَّهُ عَلَى مَا يَزْعُمُ أَنْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ، مِنْ أَنَّ كُلَّ مَعْبُودٍ وَعَابِدِهِ فِي النَّارِ، يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عِيسَى مَثَلًا لِأَصْنَامِهِمْ، فِي كَوْنِ الْجَمِيعِ فِي النَّارِ، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُثْنِي عَلَى عِيسَى الثَّنَاءَ الْجَمِيلَ، وَيُبَيِّنُ لِلنَّاسِ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ.
فَزَعَمَ ابْنُ الزِّبَعْرَى أَنَّ كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اقْتَضَى مُسَاوَاةَ الْأَصْنَامِ مَعَ عِيسَى فِي دُخُولِ النَّارِ مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَرِفُ بِأَنَّ عِيسَى رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي النَّارِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِ كَلَامِهِ عِنْدَهُ.
وَعِنْدَ ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} الْآيَةَ [21/ 101- 103]. وَأَنْزَلَ اللَّهُ أَيْضًا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} الْآيَةَ.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا} أَيْ مَا ضَرَبُوا عِيسَى مَثَلًا إِلَّا مِنْ أَجْلِ الْجَدَلِ وَالْخُصُومَةِ بِالْبَاطِلِ.
وَقِيلَ: إِنَّ جَدَلًا حَالٌ، وَإِتْيَانُ الْمَصْدَرِ الْمُنَكَّرِ حَالًا كَثِيرٌ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا تَوْجِيهَهُ مِرَارًا.
وَالْمُرَادُ بِالْجَدَلِ هُنَا الْخُصُومَةُ بِالْبَاطِلِ لِقَصْدِ الْغَلَبَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ قَصَدُوا الْجَدَلَ بِشَيْءٍ يَعْلَمُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُ بَاطِلٌ، أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي تَذَرَّعُوا بِهَا إِلَى الْجَدَلِ لَا تَدُلُّ الْبَتَّةَ عَلَى مَا زَعَمُوهُ، وَهُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ، وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِمْ مَعَانِي الْكَلِمَاتِ.
وَالْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ إِنَّمَا عَبَّرَ اللَّهُ فِيهَا بِلَفْظَةِ مَا الَّتِي هِيَ فِي الْمَوْضِعِ الْعَرَبِيِّ لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} [21/ 98] وَلَمْ يَقُلْ: وَمَنْ تَعْبُدُونَ، وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ الْأَصْنَامُ، وَأَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ عِيسَى وَلَا عُزَيْرًا وَلَا الْمَلَائِكَةَ، كَمَا أَوْضَحَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} الْآيَةَ [21/ 101].
وَإِذَا كَانُوا يَعْلَمُونَ مِنْ لُغَتِهِمْ أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ لَمْ تَتَنَاوَلْ عِيسَى بِمُقْتَضَى لِسَانِهِمُ الْعَرَبِيِّ، الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ- تَحَقَّقْنَا أَنَّهُمْ مَا ضَرَبُوا عِيسَى مَثَلًا إِلَّا لِأَجْلِ الْجَدَلِ وَالْخُصُومَةِ بِالْبَاطِلِ.
وَوَجْهُ التَّعْبِيرِ فِي صِيغَةِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا مَعَ أَنَّ ضَارِبَ الْمَثَلِ وَاحِدٌ وَهُوَ ابْنُ الزِّبَعْرَى- يَرْجِعُ إِلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ إِسْنَادُ فِعْلِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ مِنَ الْقَبِيلَةِ إِلَى جَمِيعِ الْقَبِيلَةِ، وَمِنْ أَصْرَحِ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ:
فَسَيْفُ بَنِي عَبْسٍ وَقَدْ ضَرَبُوا بِهِ ** نَبَا بِيَدَيْ وَرْقَاءَ عَنْ رَأْسِ خَالِدِ

فَإِنَّهُ نَسَبَ الضَّرْبَ إِلَى جَمِيعِ بَنِي عَبْسٍ مَعَ تَصْرِيحِهِ بِأَنَّ السَّيْفَ فِي يَدِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَهُوَ وَرْقَاءُ بْنُ زُهَيْرٍ، وَالشَّاعِرُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى قَتْلِ خَالِدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْكِلَابِيِّ لِزُهَيْرِ بْنِ جُذَيْمَةَ الْعَبْسِيِّ، وَأَنَّ وَرَقَّاءَ بْنَ زُهَيْرٍ ضَرَبَ بِسَيْفِ بَنِي عَبْسٍ رَأْسَ خَالِدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْكِلَابِيِّ، الَّذِي قَتَلَ أَبَاهُ وَنَبَا عَنْهُ، أَيْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي رَأْسِهِ، فَإِنَّ مَعْنَى: نَبَا السَّيْفُ- ارْتَفَعَ عَنِ الضَّرِيبَةِ وَلَمْ يَقْطَعْ.
وَالشَّاعِرُ يَهْجُو بَنِي عَبْسٍ بِذَلِكَ.
وَالْحُرُوبُ الَّتِي نَشَأَتْ عَنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَقَتْلُ الْحَارِثِ بْنِ ظَالِمٍ الْمُرِّيِّ لِخَالِدٍ الْمَذْكُورِ، كُلُّ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي مَحَلِّهِ.
وَالْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ صَوَّبُوا ضَرْبَ ابْنِ الزِّبَعْرَى عِيسَى مَثَلًا، وَفَرِحُوا بِذَلِكَ، وَوَافَقُوهُ عَلَيْهِ، فَصَارُوا كَالْمُتَمَالِئِينَ عَلَيْهِ.
وَبِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ جَمَعَ الْمُفَسِّرُونَ بَيْنَ صِيغَةِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} [7/ 77] وَقَوْلِهِ: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [91/ 14] وَبَيْنَ صِيغَةِ الْإِفْرَادِ فِي قَوْلِهِ: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} [54/ 29].
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ فِي قَوْلِهِ: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} هُوَ عَامَّةُ قُرَيْشٍ.
وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ لَمَّا سَمِعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ عِيسَى، وَسَمِعُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [3/ 59]- قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا تُرِيدُ بِذِكْرِ عِيسَى إِلَّا أَنْ نَعْبُدَكَ كَمَا عَبَدَ النَّصَارَى عِيسَى.
وَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ ضَرَبُوا عِيسَى مَثَلًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِبَادَةِ النَّاسِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، زَاعِمِينَ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُعْبَدَ كَمَا عُبِدَ عِيسَى.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا، أَيْ مَا ضَرَبُوا لَكَ هَذَاُُ الْمَثَلَ إِلَّا لِأَجْلِ الْخُصُومَةِ بِالْبَاطِلِ، مَعَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّكَ لَا تَرْضَى أَنْ تُعْبَدَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} الْآيَةَ [3/ 64].
وَإِنْ كَانَ مِنَ الْقُرْآنِ الْمَدَنِيِّ النَّازِلِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَمَعْنَاهُ يُكَرِّرُهُ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا قَبْلَ الْهِجْرَةِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [3/ 80].
وَلَا شَكَّ أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ مُتَيَقِّنُونَ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ الَّتِي أَقَامَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بَعْدَ الرِّسَالَةِ، وَهِيَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً- أَنَّهُ لَا يَدْعُو إِلَّا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
فَادِّعَاؤُهُمْ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَعْبُدُوهُ افْتِرَاءٌ مِنْهُمْ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مُفْتَرُونَ فِي ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ؟
التَّحْقِيقُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى عِيسَى، لَا إِلَى مُحَمَّدٍ- عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَمُرَادُهُمْ بِالِاسْتِفْهَامِ تَفْضِيلُ مَعْبُودَاتِهِمْ عَلَى عِيسَى.
قِيلَ: لِأَنَّهُمْ يَتَّخِذُونَ الْمَلَائِكَةَ آلِهَةً، وَالْمَلَائِكَةُ أَفْضَلُ عِنْدِهِمْ مِنْ عِيسَى.
وَعَلَى هَذَا فَمُرَادُهُمْ أَنَّ عِيسَى عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ سَبَبًا لِكَوْنِهِ فِي النَّارِ، وَمَعْبُودَاتُنَا خَيْرٌ مِنْ عِيسَى، فَكَيْفَ تَزْعُمُ أَنَّهُمْ فِي النَّارِ؟
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَرَادُوا تَفْضِيلَ عِيسَى عَلَى آلِهَتِهِمْ.
وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: عِيسَى خَيْرٌ مِنْ آلِهَتِنَا، أَيْ فِي زَعْمِكَ، وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّهُ فِي النَّارِ بِمُقْتَضَى عُمُومِ مَا تَتْلُوهُ مِنْ قَوْلِهِ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [21/ 98].
وَعِيسَى عَبَدَهُ النَّصَارَى مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَدَلَالَةُ قَوْلِكِ عَلَى أَنَّ عِيسَى فِي النَّارِ، مَعَ اعْتِرَافِكَ بِخِلَافِ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا تَقُولُهُ مَنْ أَنَّا وَآلِهَتَنَا فِي النَّارِ- لَيْسَ بِحَقٍّ أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ أَيْ لُدٌّ، مُبَالِغُونَ فِي الْخُصُومَةِ بِالْبَاطِلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [19/ 97] أَيْ شَدِيدِي الْخُصُومَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [2/ 204] لِأَنَّ الْفِعْلَ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ كَخَصِمَ- مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مَحَلِّهِ.
وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى هُنَا: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا الْآيَةَ- إِنَّمَا بَيَّنَتْهُ الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَا بِبَيَانِ سَبَبِهِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْآيَةَ قَدْ يَتَّضِحُ مَعْنَاهَا بِبَيَانِ سَبَبِهَا.
فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، أَنَّهُمْ ضَرَبُوا عِيسَى مَثَلًا لِأَصْنَامِهِمْ فِي دُخُولِ النَّارِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَثَلَ يُفْهَمُ مِنْ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ نُزُولُ قَوْلِهِ تَعَالَى قَبْلَهَا: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ قَالُوا: إِنْ عِيسَى عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَآلِهَتِهِمْ، فَهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ- سَوَاءٌ.
وَقَدْ عَلِمْتَ بُطْلَانَ هَذَا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا.
وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهُمْ ضَرَبُوا عِيسَى مَثَلًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنَّ عِيسَى قَدْ عُبِدَ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ أَنْ يُعْبَدَ كَمَا عُبِدَ عِيسَى، فَكَوْنُ سَبَبِ ذَلِكَ سَمَاعَهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [3/ 59]. وَسَمَاعَهُمْ لِلْآيَاتِ الْمَكِّيَّةِ النَّازِلَةِ فِي شَأْنِ عِيسَى- يُوَضِّحُ الْمُرَادَ بِالْمَثَلِ.
وَأَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي بَيَّنَتْ قَوْلَهُ: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا فَبَيَانُهَا لَهُ وَاضِحٌ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

.تفسير الآية رقم (59):

{إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ}.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: {هُوَ} عَائِدٌ إِلَى عِيسَى أَيْضًا، لَا إِلَى مُحَمَّدٍ- عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.
وَقَوْلُهُ هُنَا: عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا شَيْئًا مِنَ الْأَنْعَامِ الَّذِي أَنْعَمَ بِهِ عَلَى عَبْدِهِ عِيسَى، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي الْمَائِدَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [5/ 110]. وَفِي آلِ عِمْرَانَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [3/ 45- 46]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

.تفسير الآية رقم (61):

{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا}.
التَّحْقِيقُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ} رَاجِعٌ إِلَى عِيسَى لَا إِلَى الْقُرْآنِ، وَلَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ عَلَى الْقَوْلِ الْحَقِّ الصَّحِيحِ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ- هُوَ أَنَّ نُزُولَ عِيسَى فِي آخِرِ الزَّمَانِ حَيًّا عِلْمٌ لِلسَّاعَةِ، أَيْ عَلَامَةٌ لِقُرْبِ مَجِيئِهَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَشْرَاطِهَا الدَّالَّةِ عَلَى قُرْبِهَا.
وَإِطْلَاقُ عِلْمِ السَّاعَةِ عَلَى نَفْسِ عِيسَى- جَارٍ عَلَى أَمْرَيْنِ، كِلَاهُمَا أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ نُزُولَ عِيسَى الْمَذْكُورَ لَمَّا كَانَ عَلَامَةً لِقُرْبِهَا، كَانَتْ تِلْكَ الْعَلَامَةُ سَبَبًا لِعِلْمِ قُرْبِهَا، فَأُطْلِقَ فِي الْآيَةِ الْمُسَبَّبُ وَأُرِيدُ السَّبَبُ.
وَإِطْلَاقُ الْمُسَبَّبِ وَإِرَادَةُ السَّبَبِ- أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} [40/ 13]. فَالرِّزْقُ مُسَبَّبٌ عَنِ الْمَطَرِ، وَالْمَطَرُ سَبَبُهُ، فَأُطْلِقَ الْمُسَبَّبُ الَّذِي هُوَ الرِّزْقُ وَأُرِيدَ سَبَبُهُ الَّذِي هُوَ الْمَطَرُ، لِلْمُلَابَسَةِ الْقَوِيَّةِ الَّتِي بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَلَاغِيِّينَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ نَوْعِ مَا يُسَمُّونَهُ الْمَجَازَ الْمُرْسَلَ، وَأَنَّ الْمُلَابَسَةَ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ مِنْ عَلَاقَاتِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ عِنْدَهُمْ.
وَالثَّانِي مِنَ الْأَمْرَيْنِ: أَنَّ غَايَةَ مَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِلسَّاعَةِ، أَيْ وَإِنَّهُ لَصَاحِبُ إِعْلَامِ النَّاسِ بِقُرْبِ مَجِيئِهَا، لِكَوْنِهِ عَلَامَةً لِذَلِكَ، وَحَذْفُ الْمُضَافِ وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ- كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَمَا يَلِي الْمُضَافَ يَأْتِ خَلَفًا عَنْهُ فِي الْإِعْرَابِ إِذَا مَا حُذِفَا وَهَذَا الْأَخِيرُ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ وَجَّهَ بِهِمَا عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ النَّعْتَ بِالْمَصْدَرِ، كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ كَرَمٌ وَعَمْرٌو عَدْلٌ، أَيْ ذُو كَرَمٍ وَذُو عَدْلٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [65/ 2]. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَنَعَتُوا بِمَصْدَرٍ كَثِيرًا فَالْتَزَمُوا الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَا أَمَّا دَلَالَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الصَّحِيحِ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [4/ 159] أَيْ لَيُؤْمِنَنَّ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ عِيسَى حَيٌّ وَقْتَ نُزُولِ آيَةِ النِّسَاءِ هَذِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَمُوتُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِهِ إِلَى الْأَرْضِ.
فَإِنْ قِيلَ قَدْ ذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: {قَبْلَ مَوْتِهِ} رَاجِعٌ إِلَى الْكِتَابِيِّ، أَيْ إِلَّا لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ الْكِتَابِيِّ قَبْلَ مَوْتِ الْكِتَابِيِّ.
فَالْجَوَابُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى عِيسَى، يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، دُونَ الْقَوْلِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ أَرْجَحُ مِنْهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ الْمُتَبَادَرُ مِنْهُ، وَعَلَيْهِ تَنْسَجِمُ الضَّمَائِرُ بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ.
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
وَإِيضَاحُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا قَتَلُوهُ} أَيْ عِيسَى، {وَمَا صَلَبُوهُ} أَيْ عِيسَى، {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} أَيْ عِيسَى، {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} أَيْ عِيسَى، {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} أَيْ عِيسَى، {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} أَيْ عِيسَى، {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} أَيْ عِيسَى، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ} أَيْ عِيسَى، {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} [4/ 159] أَيْ عِيسَى، {قَبْلَ مَوْتِهِ} أَيْ عِيسَى، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [4/ 157- 159] أَيْ يَكُونُ هُوَ- أَيْ عِيسَى- عَلَيْهِمْ شَهِيدًا.
فَهَذَا السِّيَاقُ الْقُرْآنِيُّ الَّذِي تَرَى- ظَاهِرٌ ظُهُورًا لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ، فِي أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: {قَبْلَ مَوْتِهِ} رَاجِعٌ إِلَى عِيسَى.
الْوَجْهُ الثَّانِي: مِنْ مُرَجِّحَاتِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الصَّحِيحِ، فَمُفَسِّرُ الضَّمِيرِ مَلْفُوظٌ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} [4/ 157].
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ فَمُفَسِّرٌ الضَّمِيرِ لَيْسَ مَذْكُورًا فِي الْآيَةِ أَصْلًا، بَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ، تَقْدِيرُهُ: مَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحَدٌ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، أَيْ مَوْتِ أَحَدِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّرِ.
وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ أَرْجَحَ وَأَوْلَى مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنْ مُرَجِّحَاتِ هَذَا الْقَوْلِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ تَشْهَدُ لَهُ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَوَاتَرَتْ عَنْهُ الْأَحَادِيثُ بِأَنَّ عِيسَى حَيٌّ الْآنَ، وَأَنَّهُ سَيَنْزِلُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ حَكَمًا مُقْسِطًا. وَلَا يُنْكِرُ تَوَاتُرَ السُّنَّةِ بِذَلِكَ إِلَّا مُكَابِرٌ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ الصَّحِيحَ وَنَسَبَهُ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ- مَا نَصُّهُ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْحَقُّ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ بَعْدُ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- اهـ.
وَقَوْلُهُ: بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ- يَعْنِي السُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ؛ لِأَنَّهَا قَطْعِيَّةٌ، وَهُوَ صَادِقٌ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الزُّخْرُفِ هَذِهِ مَا نَصُّهُ:
وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِنُزُولِ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِمَامًا عَادِلًا وَحَكَمًا مُقْسِطًا. اهـ. مِنْهُ.
وَهُوَ صَادِقٌ فِي تَوَاتُرِ الْأَحَادِيثِ بِذَلِكَ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: قَبْلَ مَوْتِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْكِتَابِ- فَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: هُوَ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ الصَّحِيحَ وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ وَلَا تَخْصِيصٍ، بِخِلَافِ الْقَوْلِ الْآخَرِ، فَهُوَ مُشْكِلٌ لَا يَكَادُ يَصْدُقُ إِلَّا مَعَ تَخْصِيصٍ، وَالتَّأْوِيلَاتُ الَّتِي يَرْوُونَهَا فِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ ظَاهِرَةُ الْبُعْدِ وَالسُّقُوطِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: قَبْلَ مَوْتِهِ رَاجِعٌ إِلَى عِيسَى، فَلَا إِشْكَالَ وَلَا خَفَاءَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَأْوِيلٍ، وَلَا إِلَى تَخْصِيصٍ.
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْكِتَابِيِّ فَإِنَّهُ مُشْكِلٌ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ لِكُلِّ مَنْ فَاجَأَهُ الْمَوْتُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَالَّذِي يَسْقُطُ مِنْ عَالٍ إِلَى أَسْفَلَ، وَالَّذِي يُقْطَعُ رَأْسُهُ بِالسَّيْفِ وَهُوَ غَافِلٌ، وَالَّذِي يَمُوتُ فِي نَوْمِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا يَصْدُقُ هَذَا الْعُمُومُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، إِلَّا إِذَا ادَّعَى إِخْرَاجَهُمْ مِنْهُ بِمُخَصِّصٍ.
وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَخْصِيصِ عُمُومَاتِ الْقُرْآنِ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ الْمُتَّصِلَةِ أَوِ الْمُنْفَصِلَةِ.
وَمَا يُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الَّذِي يُقْطَعُ رَأْسُهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ: إِنَّ رَأْسَهُ يَتَكَلَّمُ بِالْإِيمَانِ بِعِيسَى، وَإِنَّ الَّذِي يَهْوِي مِنْ عَالٍ إِلَى أَسْفَلَ يُؤْمِنُ بِهِ وَهُوَ يَهْوِي- لَا يَخْفَى بَعْدُهُ وَسُقُوطُهُ، وَأَنَّهُ لَا دَلِيلَ الْبَتَّةَ عَلَيْهِ كَمَا تَرَى.
وَبِهَذَا كُلِّهِ تَعْلَمُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: قَبْلَ مَوْتِهِ رَاجِعٌ إِلَى عِيسَى، وَأَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ تُبَيِّنُ قَوْلَهُ تَعَالَى هُنَا: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ كَمَا ذَكَرْنَا.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ لَا تَحْقِيقَ عِنْدَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى قَدْ تُوُفِّيَ، وَيَعْتَقِدُونَ مِثْلَ مَا يَعْتَقِدُهُ ضُلَّالُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [3/ 55]. وَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [5/ 117].
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي إِحْدَى الْآيَتَيْنِ الْبَتَّةَ عَلَى أَنَّ عِيسَى قَدْ تُوُفِّيَ فِعْلًا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} فَإِنَّ دَلَالَتَهُ الْمَزْعُومَةَ عَلَى ذَلِكَ مَنْفِيَّةٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: مُتَوَفِّيكَ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ فِي أَخْذِ الشَّيْءِ كَامِلًا غَيْرَ نَاقِصٍ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: تَوَفَّى فُلَانٌ دِينَهُ يَتَوَفَّاهُ فَهُوَ مُتَوَفٍّ لَهُ إِذَا قَبَضَهُ وَحَازَهُ إِلَيْهِ كَامِلًا مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ.
فَمَعْنَى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ فِي الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، أَيْ حَائِزُكَ إِلَيَّ كَامِلًا بِرُوحِكَ وَجِسْمِكَ.
وَلَكِنَّ الْحَقِيقَةَ الْعُرْفِيَّةَ خَصَّصَتِ التَّوَفِّيَ الْمَذْكُورَ بِقَبْضِ الرُّوحِ دُونَ الْجِسْمِ، وَنَحْوُ هَذَا مِمَّا دَارَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ الْعُرْفِيَّةِ فِيهِ لِعُلَمَاءِ الْأُصُولِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ: الْأَوَّلُ: هُوَ تَقْدِيمُ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ، وَتَخْصِيصُ عُمُومِ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ بِهَا.
وَهَذَا هُوَ الْمُقَرَّرُ فِي أُصُولِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَهُوَ الْمُقَرَّرُ فِي أُصُولِ مَالِكٍ، إِلَّا أَنَّهُمْ فِي الْفُرُوعِ رُبَّمَا لَمْ يَعْتَمِدُوهُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ.
وَإِلَى تَقْدِيمِ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
وَاللَّفْظُ مَحْمُولٌ عَلَى الشَّرْعِيِّ ** إِنْ لَمْ يَكُنْ فَمُطْلَقٌ الْعُرْفِيِّ

فَاللُّغَوِيُّ عَلَى الْجَلِيِّ وَلَمْ يَجِبْ ** بَحْثٌ عَنِ الْمَجَازِ فِي الَّذِي انْتُخِبَ

الْمَذْهَبُ الثَّانِي: هُوَ تَقْدِيمُ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ عَلَى الْعُرْفِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعُرْفِيَّةَ- وَإِنْ تَرَجَّحَتْ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ- فَإِنَّ اللُّغَوِيَّةَ مُتَرَجِّحَةٌ بِأَصْلِ الْوَضْعِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-.
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا تُقَدَّمُ الْعُرْفِيَّةُ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ، وَلَا اللُّغَوِيَّةُ عَلَى الْعُرْفِيَّةِ، بَلْ يُحْكَمُ بِاسْتِوَائِهِمَا وَمُعَادَلَةِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِيهِمَا، فَيُحْكَمُ عَلَى اللَّفْظِ بِأَنَّهُ مُجْمَلٌ، لِاحْتِمَالِ هَذِهِ وَاحْتِمَالِ تِلْكَ.
وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ السُّبْكِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَإِلَى هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
وَمَذْهَبُ النُّعْمَانِ عَكْسِ مَا مَضَى ** وَالْقَوْلُ بِالْإِجْمَالِ فِيهِ مُرْتَضَى

وَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ تَقْدِيمُ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ عَلَى الْعُرْفِيَّةِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى أَنَّهُ قَبَضَهُ إِلَيْهِ بِرُوحِهِ وَجِسْمِهِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى الْمَوْتِ أَصْلًا، كَمَا أَنَّ تَوَفِّي الْغَرِيمِ لِدَيْنِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَوْتِ دَيْنِهِ.
وَأَمَّا عَلَى الْمَذْهَبِ الأول: وَهُوَ تَقْدِيمُ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ، فَإِنَّ لَفْظَ التَّوَفِّي حِينَئِذٍ يَدُلُّ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى الْمَوْتِ.
وَلَكِنْ سَتَرَى إِنْ- شَاءَ اللَّهُ- أَنَّهُ وَإِنْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِيسَى قَدْ تُوُفِّيَ فِعْلًا.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ- وَجْهَ عَدَمِ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى مَوْتِ عِيسَى فِعْلًا، أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} فَقُلْنَا مَا نَصُّهُ: وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا، مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {مُتَوَفِّيكَ} لَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ الْوَقْتِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ قَدْ مَضَى، وَهُوَ مُتَوَفِّيهِ قَطْعًا يَوْمًا مَا، وَلَكِنْ لَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ قَدْ مَضَى.
وَأَمَّا عَطْفُهُ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ عَلَى قَوْلِهِ: {مُتَوَفِّيكَ} فَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِإِطْبَاقِ جُمْهُورِ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَلَا الْجَمْعَ، وَإِنَّمَا تَقْتَضِي مُطْلَقَ التَّشْرِيكِ.
وَقَدِ ادَّعَى السِّيرَافِيُّ وَالسُّهَيْلِيُّ إِجْمَاعَ النُّحَاةِ عَلَى ذَلِكَ، وَعَزَاهُ الْأَكْثَرُ لِلْمُحَقَّقَيْنِ، وَهُوَ الْحَقُّ خِلَافًا، لِمَا قَالَهُ قُطْرُبُ وَالْفَرَّاءُ وَثَعْلَبُ وَأَبُو عَمْرٍو الزَّاهِدُ وَهِشَامٌ وَالشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّهَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِيهِ.
وَقَدْ أَنْكَرَ السِّيرَافِيُّ ثُبُوتَ هَذَا الْقَوْلِ عَنِ الْفَرَّاءِ وَقَالَ: لَمْ أَجِدْهُ فِي كِتَابِهِ.
وَقَالَ وَلِيُّ الدِّينِ: أَنْكَرَ أَصْحَابُنَا نِسْبَةَ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى الشَّافِعِيِّ.
حَكَاهُ عَنْهُ صَاحِبُ الضِّيَاءِ اللَّامِعِ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» يَعْنِي الصَّفَا- لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى اقْتِضَائِهَا التَّرْتِيبَ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ هُوَ مَا قَالَهُ الْفِهْرَيُّ كَمَا ذَكَرَهُ عَنْهُ صَاحِبُ الضِّيَاءِ اللَّامِعِ.
وَهُوَ أَنَّهَا كَمَا أَنَّهَا لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَلَا الْمَعِيَّةَ، فَكَذَلِكَ لَا تَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْهُمَا.
فَقَدْ يَكُونُ الْعَطْفُ بِهَا مَعَ قَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِالْأَوَّلِ، كَقَوْلِهِ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الْآيَةَ [2/ 158] بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَقَدْ يَكُونُ الْمَعْطُوفُ بِهَا مُرَتَّبًا، كَقَوْلِ حَسَّانَ: هَجَوْتَ مُحَمَّدًا وَأَجَبْتُ عَنْهُ عَلَى رِوَايَةِ الْوَاوِ.
وَقَدْ يُرَادُ بِهَا الْمَعِيَّةُ، كَقَوْلِهِ: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [29/ 15]. وَقَوْلِهِ: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [75/ 9]. وَلَكِنْ لَا تُحْمَلُ عَلَى التَّرْتِيبِ وَلَا عَلَى الْمَعِيَّةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى مُتَوَفِّيكَ أَيْ مُنِيمُكَ، وَرَافِعُكَ إِلَيَّ أَيْ فِي تِلْكَ النَّوْمَةِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ الْوَفَاةِ عَلَى النَّوْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [6/ 60]، وَقَوْلِهِ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [39/ 42]، وَعَزَى ابْنُ كَثِيرٍ هَذَا الْقَوْلَ لِلْأَكْثَرِينَ، وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ مُتَوَفِّيَكَ، اسْمُ فَاعِلٍ؛ تَوَفَّاهُ إِذَا قَبَضَهُ وَحَازَهُ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: تَوَفَّى فُلَانٌ دَيْنَهُ إِذَا قَبَضَهُ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ مَعْنَى مُتَوَفِّيكَ عَلَى هَذَا: قَابِضَكَ مِنْهُمْ إِلَيَّ حَيًّا، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَأَمَّا الْجَمْعُ بِأَنَّهُ تَوَفَّاهُ سَاعَاتٍ أَوْ أَيَّامًا ثُمَّ أَحْيَاهُ- فَلَا مُعَوِّلَ عَلَيْهِ; إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. اهـ. مِنْ دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ دَلَالَةَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مُتَوَفِّيكَ} عَلَى مَوْتِ عِيسَى فِعْلًا- مَنْفِيَّةٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْهَا ثَلَاثَةً مِنْ غَيْرِ تَنْظِيمٍ:
أَوَّلُهَا: أَنَّ مُتَوَفِّيكَ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ فِي أَخْذِهِ بِرُوحِهِ وَجِسْمِهِ.
الثَّانِي: أَنَّ مُتَوَفِّيكَ وَصْفٌ مُحْتَمِلٌ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَالْمَاضِي، وَلَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّوَفِّيَ قَدْ وَقَعَ وَمَضَى، بَلِ السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ وَالْقُرْآنُ دَالَّانِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، كَمَا أَوْضَحْنَا فِي هَذَا الْمَبْحَثِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَوَفِّيَ نَوْمٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ النُّوَّمَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْوَفَاةُ، فَكُلٌّ مِنَ النَّوْمِ وَالْمَوْتِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ التَّوَفِّي، وَهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْعُرْفِيِّ.
فَهَذِهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ ذَكَرْنَاهَا كُلَّهَا فِي الْكَلَامِ الَّذِي نَقَلْنَا مِنْ كِتَابِنَا دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ.
وَذَكَرْنَا الْأَوَّلَ مِنْهَا بِانْفِرَادِهِ؛ لِنُبَيِّنَ مَذَاهِبَ الْأُصُولِيِّينَ فِيهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} الْآيَةَ [5/ 117]، فَدَلَالَتُهُ عَلَى أَنَّ عِيسَى مَاتَ مَنْفِيَّةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّ عِيسَى يَقُولُ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَمُوتُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِخْبَارُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَوْتِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْآنَ قَدْ مَاتَ كَمَا لَا يَخْفَى.
وَالثَّانِي مِنْهُمَا: أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ أَنَّهُ تَوَفِّيَ رَفْعٍ وَقَبْضٍ لِلرُّوحِ وَالْجَسَدِ، لَا تَوَفِّيَ مَوْتٍ.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ مُقَابَلَتَهُ لِذَلِكَ التَّوَفِّي بِالدَّيْمُومَةِ فِيهِمْ فِي قَوْلِهِ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} الْآيَةَ [5/ 117]- تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَوَفِّي مَوْتٍ، لَقَالَ مَا دُمْتُ حَيًّا، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي؛ لَأَنَّ الَّذِي يُقَابَلُ بِالْمَوْتِ هُوَ الْحَيَاةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [19/ 31].
أَمَّا التَّوَفِّي الْمُقَابَلُ بِالدَّيْمُومَةِ فِيهِمْ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَوَفِّي انْتِقَالٍ عَنْهُمْ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ.
وَغَايَةُ مَا فِي ذَلِكَ هُوَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ اللُّغَوِيَّةِ مَعَ قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ عَنْ قَصْدِ الْعُرْفِيَّةِ، وَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ مِنَ الْأَوْجُهِ الْمَذْكُورَةِ سَابِقًا: أَنَّ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ عِيسَى قَدْ مَاتَ، قَالُوا: إِنَّهُ لَا سَبَبَ لِذَلِكَ الْمَوْتِ إِلَّا أَنَّ الْيَهُودَ قَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ، فَإِذَا تَحَقَّقَ نَفْيُ هَذَا السَّبَبِ وَقَطْعُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ بِسَبَبٍ غَيْرِهِ- تَحَقَّقْنَا أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ أَصْلًا، وَذَلِكَ السَّبَبُ الَّذِي زَعَمُوهُ، مَنْفِيٌّ يَقِينًا بِلَا شَكٍّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ- جَلَّ وَعَلَا- قَالَ: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} [4/ 157]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [4/ 157- 158].
وَضَمِيرُ رَفْعِهِ ظَاهِرٌ فِي رَفْعِ الْجِسْمِ وَالرُّوحِ مَعًا كَمَا لَا يَخْفَى.
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ- جَلَّ وَعَلَا- مُسْتَنَدَ الْيَهُودِ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ، بِأَنَّ اللَّهَ أَلْقَى شَبَهَهُ عَلَى إِنْسَانٍ آخَرَ فَصَارَ مَنْ يَرَاهُ يَعْتَقِدُ اعْتِقَادًا جَازِمًا أَنَّهُ عِيسَى.
فَرَآهُ الْيَهُودُ لَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِ عِيسَى فَاعْتَقَدُوا لِأَجْلِ ذَلِكَ الشَّبَهِ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَيْهِ اعْتِقَادًا جَازِمًا أَنَّهُ عِيسَى؛ فَقَتَلُوهُ.
فَهُمْ يَعْتَقِدُونَ صِدْقَهُمْ فِي أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ، وَلَكِنَّ الْعَلِيمَ اللَّطِيفَ الْخَبِيرَ أَوْحَى إِلَى نَبِيِّهِ فِي الْكِتَابِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، أَنَّهُمْ لَمْ يَقْتُلُوهُ وَلَمْ يَصْلُبُوهُ.
فَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ مِنَ اللَّهِ بِأَمْرِ عِيسَى لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْيَهُودِ وَلَا النَّصَارَى، كَمَا أَوْضَحَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [4/ 157- 158].
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ عَلَى التَّفْسِيرِ الصَّحِيحِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِلَاهُمَا دَالٌّ عَلَى أَنَّ عِيسَى حَيٌّ، وَأَنَّهُ سَيَنْزِلُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَأَنَّ نُزُولَهُ مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ، وَأَنَّ مُعْتَمَدَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ هُوَ إِلْقَاءُ شَبَهِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَاعْتِقَادُهُمُ الْكَاذِبُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَقْتُولَ الَّذِي شُبِّهَ بِعِيسَى هُوَ عِيسَى.
وَقَدْ عَرَفْتَ دَلَالَةَ الْوَحْيِ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: مُتَوَفِّيكَ لَا يَدُلُّ عَلَى مَوْتِهِ فِعْلًا.
وَقَدْ رَأَيْتَ تَوْجِيهَ ذَلِكَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ، وَأَنَّهُ عَلَى الْمُقَرَّرِ فِي الْأُصُولِ فِي الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا عَنْهُمْ، وَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ فِعْلًا.
أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَقْدِيمِ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ عَلَى ذَلِكَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْمَوْتِ.
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِالْإِجْمَالِ، فَالْمُقَرِّرُ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمَحْمِلَ لَا يُحْمَلُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ مَعْنَيَيْهِ، وَلَا مَعَانِيهِ، بَلْ يُطْلَبُ بَيَانُ الْمُرَادِ مِنْهُ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ.
وَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ هُنَا وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَأَنَّهُ حَيٌّ.
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَقْدِيمِ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ، فَإِنَّهُ يُجَابُ عَنْهُ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّوَفِّيَ مَحْمُولٌ عَلَى النَّوْمِ، وَحَمْلُهُ عَلَيْهِ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ تَوَفِّي مَوْتٍ، فَالصِّيغَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِعْلًا.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ بِتَقْدِيمِ الْعُرْفِيَّةِ مَحَلُّهُ فِيمَا إِذَا لَمْ يُوجَدُ دَلِيلٌ صَارِفٌ عَنْ إِرَادَةِ الْعُرْفِيَّةِ اللُّغَوِيَّةِ، فَإِنْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ وَجَبَ تَقْدِيمُ اللُّغَوِيَّةِ قَوْلًا وَاحِدًا.
وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا دَلَالَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَلَى إِرَادَةِ اللُّغَوِيَّةِ هَنَا، دُونَ الْعُرْفِيَّةِ.
وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْقَوْلَ بِتَقْدِيمِ اللُّغَوِيَّةِ عَلَى الْعُرْفِيَّةِ مَحَلُّهُ فِيمَا إِذَا لَمْ تُتَنَاسَ اللُّغَوِيَّةُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنْ أُمِيتَتِ الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى الْعُرْفِيَّةِ إِجْمَاعًا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
أَجَمْعٌ إِنْ حَقِيقَةٌ تُمَاتُ ** عَلَى التَّقَدُّمِ لَهُ الْإِثْبَاتُ

فَمَنْ حَلِفَ لَيَأْكُلَنَّ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ، فَمُقْتَضَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَبَرُّ يَمِينَهُ حَتَّى يَأْكُلَ مِنْ نَفْسِ النَّخْلَةِ، لَا مِنْ ثَمَرَتِهَا.
وَمُقْتَضَى الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ ثَمَرَتِهَا لَا مِنْ نَفْسِ جِذْعِهَا.
وَالْمَصِيرُ إِلَى الْعُرْفِيَّةِ هُنَا وَاجِبٌ إِجْمَاعًا؛ لِأَنَّ اللُّغَوِيَّةَ فِي مِثْلِ هَذَا أُمِيتَتْ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا يَقْصِدُ عَاقِلٌ الْبَتَّةَ الْأَكْلَ مِنْ جِذْعِ النَّخْلَةِ.
أَمَّا الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْحَقِيقَةِ الْمُمَاتَةِ كَمَا لَا يَخْفَى.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْعُرْفِيَّةَ تُسَمَّى حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً وَمَجَازًا لُغَوِيًّا، وَأَنَّ اللُّغَوِيَّةَ تُسَمَّى عِنْدَهُمْ حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً، وَمَجَازًا عُرْفِيًّا.
وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّا أَوْضَحْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ لَا مَجَازَ فِيهِ عَلَى التَّحْقِيقِ فِي رِسَالَتِنَا الْمُسَمَّاةِ مَنْعُ جَوَازِ الْمَجَازِ فِي الْمُنَزَّلِ لِلتَّعَبُّدِ وَالْإِعْجَازِ.
فَاتَّضَحَ مِمَّا ذَكَرْنَا كُلَّهُ أَنَّ آيَةَ الزُّخْرُفِ هَذِهِ تُبَيِّنُهَا آيَةُ النِّسَاءِ الْمَذْكُورَةُ، وَأَنَّ عِيسَى لَمْ يَمُتْ، وَأَنَّهُ يَنْزِلُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى هُنَا: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أَيْ عَلَامَةٌ وَدَلِيلٌ عَلَى قُرْبِ مَجِيئِهَا؛ لِأَنَّ وَقْتَ مَجِيئِهَا بِالْفِعْلِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ مِرَارًا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا أَيْ لَا تَشُكُّنَّ فِي قِيَامِ السَّاعَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا شَكَّ فِيهِ.
وَقَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ مِرَارًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا} [22/ 7]. وَقَوْلِهِ: {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [42/ 7]. وَقَوْلِهِ: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} [6/ 12]. وَقَوْلِهِ: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ} [3/ 25]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}.
وَقَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ بِكَثْرَةٍ مِرَارًا كَقَوْلِهِ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} الْآيَةَ [35/ 6]. وَقَوْلِهِ: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} الْآيَةَ [18/ 50]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.